الفَسَاد الأسود..الشبكات الخفية في البلدان النامية بقلم صبحي ولد ودادي

اثنين, 07/11/2016 - 15:26
صبحي ولد ودادي

لا شيء يختصر عوائق التغيير السياسي والتقدم الاقتصادي كالفساد، إنه الداء الذي يصيب المنظومة السياسية بالتشوه ويضعف مؤسسية الدول، ويضرب الاستراتيجيات التنموية ويحيل وسائلها الفعالة في تحقيق النمو إلى آليات لبناء نظام اقتصادي واجتماعي غير عادل، بل متوحش، حين تفرز العلاقات الاقتصادية تمايزا طبقيا حادا ومشكلة اجتماعية معقدة؛ أغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقرا ..

في هذا المقال سنتعرض للفساد لا كمشكلات إجرائية وسلوكيات خاطئة متعلقة بانتشار الرشوة الرخيصة وغير الرخيصة، بل في تبلور الفساد في منظومات وشبكات خفية وعلنية في البلدان النامية تسوس الدولة وتوجه الموارد وتحتكر النفوذ الحقيقي لقاء مصالح متبادلة، توظف النظام السائد؛ ديموقراطية شكلية أو نظاما ديكتاتوريا متدثرا بالايديولوجيا أو الشرعية التاريخية، لتمرير مصالحها الضيقة ونهمها اللامحدود للثروة والنفوذ، ذلك بأن هذه التعرية وهذا الكشف هو أهم خطوة في مواجهة هذا المشكل الكبير، باعتبار أن نقطة قوة هذا الفساد العميق والمتجذر هي في تخفيه ومراوغته وقدرته على التمويه والتضليل.

نظام سياسي للفساد..وتنظيم شبكي له

عانت وتعاني البلدان النامية من الفساد الإداري، بمختلف أشكاله: الرشوة واستغلال النفوذ، وتبادل المنافع الفردي وغير ذلك، إلا أن التركيز على النوع السابق كثيرا ما ساعد في تعييب الحديث عن نوع آخر من الفساد قد يأخذ الأشكال السابقة وغيرها، وهو الفساد السياسي المتعلق بنظام سياسي كامل، أو بنخبة منه أو بجماعة ضغط، أو عائلات، أو شبكة من الناس لها نفوذ سياسي يتم توظيفه لضمان مصالح فئوية محدودة، يمارس بشكل أكثر عمقا وشمولية، وخطرا، فكثيرا ما رأينا في حالات عديدة كيف أن صناعة القرار أخضعت بشكل مقزز وغير منطقي للمصالح التجارية لفئة من الناس.

في بعض حالات الفساد السياسي الذي عرفته الديموقراطيات الناشئة في افريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا رأينا كيف يتشكل لوبي واسع من رجال الأعمال وصغار السياسيين من الأطر في الجهاز البيروقراطي، والعسكريين، يتقاسم الجميع النفوذ والسرقة المباشرة والرشى السياسية والمالية، وفي الوقت الذي يمنح التكنوقراط الفاسدون مؤسسات كاملة كإقطاعيات يمارسون فيها معادلة كليتغارد : الاحتكار زائدا حرية التصرف ناقصا المساءلة، يُمنح رجال الآعمال مزايا لا حدود لها، سواء تعلقت بالنفاذ غير العادل للصفقات العمومية أو تعلقت باستغلال مؤسسات الدولة من قضاء وشرطة وسلطات اقتصادية لتمكين المصالح الخاصة، بل إنه كثيرا ما تطور الأمر إلى اختراق كامل لهذه المؤسسات من طرف رجال هؤلاء التجار الشجعين.. وكثيرا ما تورطت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في شراكة مع منظومة الفساد هذه، حين تضمن برشى مالية وشراكات تحت الطاولة أن ترسو المناقصات الكبرى عليها أو تمنح حق استغلال الثروات الباطنية..

في حالات أخرى للفساد السياسي تضيق حلقة الفساد، وتتم خوصصته واحتكاره لشلة قليلة من الناس، فينسأ حكم العائلات أو الشٌلل، وهو تنظيم خفي خبيث، يقيم امتداداته السيئة في البيئة السياسية الاقتصادية، حينها يتم احتكار كل شيء، من الصفقات الكبيرة إلى حق التخليص الجمركي، وتتقلص قدرة الشركات الناشئة في الدخول إلى الأسواق، ويتهامس الناس بنقاط بريد الشبكة، ويسعى الفاعلون الاقتصاديون لبناء علاقات معها، أما مؤسسات الدولة فتتحول من منحها لموالين من التكنوقراط الفاسدين الذين يضمنون الولاء السياسي من خلال رشوتهم للمواطنين الفقراء في محيطهم السياسي في النموذج الأول، إلى نوعين من المؤسسات: مؤسسات خدمية وسياسية خاوية على عروشها، ومؤسسات مالية يديرها أحد أعضاء الشبكة، ياله من نموذج أناني للفساد !

الجيش في نظام العائلات أو الأوليغاركات إما أن يتم إضعافه وتدجينه، أو يحول إلى قلعة من قلاع الفساد يديرها أفراد قليلون من الشبكة، ويسمون أنفسهم “مجتمع الضباط”، يؤسسون لامبراطوريات مالية كبيرة في ظاهرها تتبع الجيش وفي حقيقتها تدر ريعها على الفئة المختارة من مجتمع الضباط الكبار الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على البلد، وربما تبجحوا بأنهم المؤسسة الوحيدة الضامنة لحكم الشلة والعائلة..

الفساد..كيف يعمل؟ كيف يُفسد؟

لن نتحدث هنا عن الضرر الواضح الذي يطال السياسة والدولة كبناء مؤسسي، كجهاز إداري، وككيان يسع الجميع ويحمي الجميع، ذلك أمر مشهود ، ولكننا سنتعرض باقتضاب للتأثيرات السيئة على اقتصادات البلدان التي تعاني من الفساد الأسود:

• في الوقت الذي تتبجح فيه أنظمة شبكات الفساد بأنها تتيح يوما بعد يوم الفرصة لمناخ استثماري جالب للاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ إلا أن الواقع أن بيئة الاستثمار بيئة طاردة للمستثمرين، بسبب الكُلَف الكبيرة والابتزاز الذي يتعرض له المستثمرون؛ ومع ذلك فإن مستثمرين سيئين على استعداد للتعاطي مع الرشاوي في مقابل إفساد البيئة وسيكونون سعداء بحط الرحال في هذه البلدان.. في موريتانيا مثلا تمنح شركات عملاقة حق الاستغلال والتنقيب عن الثروات الباطنية مقابل صفقات غبن شديدة ومقابل العمل مع إدارات للبيئة كسولة وضعيفة القدرات التقنية..

• في أنظمة شبكات الفساد يتم التركيز في الإنفاق العام على الإنشاءات وبعض الورشات الكبيرة، ويتم إهمال التعليم والصحة، لأن الأنظمة الفاسدة تبحث عن مشروعية إنجاز مشهودة من الجميع، وقبل ذلك، وذاك الأهم، تبحث عن فرص لصفقات الشركات التي تم إنشاؤها بواسطة وكيل تجاري من جناح قطاع الأعمال في الشبكة..

• القطاع الخاص المدلل في بيئة الفساد يهرب من الأنشطة الإنتاجية التي توفر عمالة أكثر وقيمة مضافة أكبر للاقتصاد نحو قطاعات التجارة العامة والتوريد للدولة، لأن عينه على سوق الدولة التي تمثل بقرة حلوبا تتم فوترة المبيعات عليها بأثمان خيالية حيث يغيب التفتيش الفعّال، ومن القصص المضحكة المبكية في ذلك أن أحد الموردين في إحدى دول شمال غرب افريقيا نهاية التسعينات وفر للدولة جرارات يدوية صغيرة زهيدة بسعر السوق، وتم تسجيلها دون معاينة من جهاز محايد ب 15000 دولار !!، وسجلت الفواتير اسم البضاعة تحت الاسم المدلس التالي: عربات زراعية صغيرة ذات ثلاث أرجل..!

• للفساد علاقةُ الحلقةِ المفرغة مع الفقر، فالبلدان الفقيرة تظل فقيرة لأن الفساد ينهك اقتصادها، وينهب خيراتها، والفقر يشكل أفضل بيئة للفساد، فالأجهزة الإدارية وموظفوها الذين يعيشون ظروفا بائسة يكملون حلقة الفساد الكبيرة، والشعوب الفقيرة لا تملك قدرة على الفكاك من اشتراطات شبكات الفساد السياسيّة، ومن ثم إدامة عمره، هنا تُشكل الديمرقراطيات الشكلية فرصة العمر لشبكات الفساد المهيمنة.

كتبه الأستاد صبحي ولد ودادي لموقع إسلام أونلاين