حرية التعبير ........رؤية شرعية / محمد محمود ولد الجودة

ثلاثاء, 24/01/2017 - 22:31

الناظر في النصوص الشرعية , والتعاملات النبوية يرى بأن موضوع الحرية عموما هو محور الشريعة, و حرية التعبير  خصوصا هي الركن الأساسي الذي , تبنى عليه الحرية بجميع أشكالها وأنواعها ، حيث تحمل في طياتها عدة أنواع من الحريات مثل حرية الصحافة وحرية وسائل النشر والإعلام من إذاعة وتلفزيون ومسرح , وحرية الفكر من تعليم وتعلم , ونشر للكتب والآراء وغير ذلك .

وذلك لأن الحرية منحة إلهية لا ينبغي التفريط فيها ولا الاعتداء عليها , فهي ( نسيج أصيل وقديم في الكون , وهي بجميع درجاتها وألوانها من أجمل ما منحه الله للإنسان بعد العقل والحرية شيء  متصل بالروح , والعقل وغيابها عن الإنسان يحمل معنين

ـ الاعتداء على منحة الله

ـ وموت الإنسان معنويا وانحداره من رتبة الإنسانية , بشرفها إلى رتبة الدواب المسخرة التي تقاد من أعناقها بالحبال)           ( حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية , أحمد رشاد طاحون ص 52  )                                                       

   

ـ تاريخها ومفهومها

إن حرية التعبير قديمة قدم الإنسان , حيث بدأت من لحظة خلق آدم , عندما استخدمتها الملائكة  في السؤال الذي وجهته إلى رب العزة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) وكان الجواب من الله فيه تقرير لهذه الحرية , وعدم كبت لها (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة 30 )

والواضح أن الحكمة من تعليم آدم الأسماء قبل كل شيئ , هو أن يعبر عن كل شيء باسمه وحقيقته  (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (البقرة 31)

وهذا إن دل على شيئ إنما يدل , على أن القانون الذي يفرض عليك , أن تعبر عن الشيئ  بغير اسمه  أو تصفه  بغير حقيقته , هو قانون مناف لهذه الحكمة ,  ومخالف للبيان الذي علمه الله للإنسان (لرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)

فهي من الناحية الدينية  ابتدأت مع الإنسان وأقرتها شريعة الرحمن

وأما من الناحية الواقعية , فلم يستعملها البشر ولم يقروها في قوانينهم , قبل القرون الوسطى , وكان أول ظهور لها في الدساتير في المملكة المتحدة , وذلك سنة 1688 بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني , وأتت بويليام الثالث .

فبعد سنة من تنصيبه أصدر البرلمان لبريطاني قانونا ينص على حرية الكلام في البرلمان .

وبعد عقود من الصراع في فرنسا ونجاح الثورة الفرنسية , أصدر الفرنسيون قانون حقوق الإنسان والذي نص على أن حرية التعبير جزء , أساسي من حقوق المواطن  وكان ذلك سنة 1789 .

ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة في إعلانها لها عن هذا التاريخ , فقد أصدرت قانونا ينص على حرية التعبير وذلك سنة 1776 ـ 1778 إلان الفارق بينها مع غيرها أنها لم تفلح في استصدارها لهذا القانون  حيث تم التراجع عنه في قانون أصدر 1798 ينص على أن معارضة الحكومة , جريمة يعاقب عليها القانون .

واستمر الصراع حول هذه الحرية التي تعبر عن الإنسان وحقيقته  , حتى أجمعت عليها عصبة الأمم وذلك في قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة , أصدرت فيه أن حرية التعبير جزء لا يتجزأ  عن الإنسان  فهو ملازم لوجوده , ومعبر عن حقيقته , وهو الذي يميزه عن غيره من المخلوقات , وكان ذلك سنة 14/09/1946  

وبعد ذلك استمر وجودها وظهورها في دساتير الدول .

 

   ـ مفهومها

إن حرية التعبير من المفاهيم المطاطة , التي اختلف المفكرون الإسلاميون , والحداثيون المتنورون  في وضع   حد موحد لها , والسبب أن الكل ينطلق من خلفياته , وينظر بمنظار لا ينظر به الآخر .

والواضح أن حرية التعبير تأتي نتيجة لمقدمة قبلها , ومشتركة معها في الحرية ألا وهي حرية , الرأي أو الفكر .

وبسبب التقارب الواضح بين حرية الرأي , وحرية التعبير جعلهما كثير من المفكرين الإسلاميين بمعنى واحد , وأن كلا منهما يعبر بها عن الأخرى .

وممن أكد على ذلك الدكتور عبد المجيد النجار , حيث (يرى بأن حرية الرأي تشتمل على معنيين اثنين

ـ حرية الإنسان في تكوين رأيه

ـ الإعلان عن الرأي الذي توصل إليه ) ( ـ دور حرية الرأي في الحفاظ على الوحدة الفكرية بين المسلمين  ص 43 )

إلا أن الحقيقة تقتضى الفرق بينهما  , فحرية الرأي هي مرحلة تكوينه وتأسيسه , والنظر فيه  من جميع الجوانب حتى يصل لمرحلة النضج .

وحرية  التعبير هي ما بعد ذلك وهي مرحلة الإفصاح عن الرأي , وإظهاره للآخر , ودعوة الناس إليه  .

وعلى هذه التفرقة يمكننا أن نعرف حرية التعبير تعريفا موافقا لشريعتنا فنقول : هي الحالة التي ترتفع فيها عن الإنسان , كل الضغوط , والإكراهات المؤثرة على تعبيره , عن الرأي , مالم يكن مخالفا لأحكام الشريعة . (فضاءات الحرية 425 )

                                    

                                  الأدلة الشرعية لحرية التعبير

الناظر لحرية التعبير , يرى بأنها فعل من الأفعال , التي يقوم بها المكلف , ويعتريها من الأحكام ما يعتري فعل المكلف من الأحكام الشرعية المعروفة .

وهذا من الأوجه التي تفترق فيها نظرة الإسلام إلى حرية التعبير , مع القوانين الوضعية , حيث جعلها الإسلام تارة واجبة لا ينبغي تركها بل يجب فعلها , بينما نصت القوانين الوضعية , على أنها حق من الحقوق يملكه صاحبه له الخيار في التنازل عنه متى أراد .                         

                            ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مما يدل على وجوب حرية التعبير , تعلقها بباب من أعظم أبواب الدين الإسلامي , وهو قطب رحاه  وقد ربطه الله عز وجل بأهم أركان الدين ـ الإيمان والصلاة ـ وجعله شرطا لخيرية هذه الأمة حيث قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ  (النساء 110.)  

وذكره من صفات المؤمنين مقدما له على الصلاة والزكاة , فقال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) (التوبة 71)

وجعل النبي صل الله عليه وسلم , صاحبه من خير الناس , وذلك حينما سئل , من خير الناس فقال آمرهم بالمعروف , وأنهاهم عن المنكر , وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم . (ابن العربي أحكام القرآن ج2 ص 292)

ومن احتقار الرجل لنفسه , تركه لهذه  الحرية التي أعطاه  الشرع إياها , وسكوته عن المنكر يفعل أمامه بدون إنكار له وقد صح عن النبي صل الله عليه وسلم , أنه قال لا يحقر أحكم نفسه , قالوا يا رسول  الله كيف يحقر أحدنا نفسه , قال يرى أمرا لله عليه فيه مقال , ثم لا يقول  فيه فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما يمنعك أن تقول في كذا وكذا فيقول خشية الناس , فيقول إياي كنت أحق أن تخشى .

( ابن  ماجه في السنن ج2 ص 1328 إسناده صحيح ورجاله ثقات )

هذه النصوص إن دلت على شيئ إنما تدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد نص العلماء قديما على وجوبه ولا يتصور وجوده بدون قوانين تسن حرية التعبير التي توفره , وتفتح الأبواب أمامه وما  لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

وهو وسيلة من وسائل الإصلاح السياسي التي وضعتها الشريعة لمحاربة الظالمين كما صح في الحديث إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده (الترمذي الحديث رقم 2168 )

وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل  أنواع الجهاد أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر(الترمذي 8/345) .

فحرية التعبير في الإصلاح  السياسي  أباحتها الشريعة , وجعلت الموت في سبيلها الموافق لسبيل الله  والمبين لكلمة الحق صاحبه من أفضل الشهداء , سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.

(الحاكم في المستدرك الحديث رقم 4872 وقال صحيح الإسناد )

                                          ـ النصيحة

ومما يدل دلالة واضحة على حرية التعبير ـ النصيحة ـ وهي مبدأ إسلامي معروف يدعو إلى ما فيه الصلاح ويبعد عن ما فيه الفساد.

وقد استعملها سائر الأنبياء , في مناهجهم الدعوية , والإصلاحية فقال تعالى على لسان نوح (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (الأعراف 62 )

وقال على لسان هود (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)       أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) (الأعراف 68)

وقد كان النبي صل الله عليه وسلم يبايع أصحابه عليها كما بايع جرير ابن عبد الله على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم . (البخاري الحديث رقم 7204)

والنصيحة وسيلة من وسائل الإصلاح السياسي , التي لا يستغني أي حاكم عنها , ولذلك ذكرها النبي صل الله عليه وسلم في الحديث الذي جمع فيه الدين فقال : الدين النصيحة , وذكر من أقسامها النصيحة لأئمة المسلمين , وعامتهم .(صحيح مسلم )

وهذه الوسيلة الإصلاحية , واللبنة المباركة , لا يمكن وجودها ولا تحققها إلا في مجتمع سادت فيه حرية التعبير , ولذلك طالب بها الخلفاء الراشدون , واستعملها العلماء المتقدمون في زمن السلف , وأتت أكلها في بعض الأحيان .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم  النصيحة للحكام وللعامة , توسعة لدائرة حرية التعبير ,لأن الإصلاح لا يمكن أن يتجزأ فالعامة عبارة عن ظل للحاكم , ولا يمكن استقامة الظل مع اعوجاج صاحبه .

وقد دار حكم النصيحة قديما ,بين فرض العين وفرض الكفاية مما يدل على وجوبها ومادامت حرية التعبير وسيلة لها فلها حكمها لأن وسيلة الواجب واجبة .

                                       ـ ضوابطها وقيودها  

إذا كانت حرية التعبير من الأفعال المتعلقة باللسان ينبغي للمكلف الانتباه  لها والحذر من الإكثار منها لأن اللسان خطره عظيم , فهو من أعظم نعم الله تعالى على العبد , وبه يتبين الكفر من الإيمان  وليس أعصى منه في أعضاء الإنسان ولا نجاة  لأحد منه  إلا بالصمت .

والتعبير عموما تعتريه أحكام الشريعة , ، فمنه واجب كالنطق بالشهادتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومنه مندوب كالذكر وشبهه، ومنه محرم كالغيبة والنميمة، ومنه مكروه كالكلام بعد صلاة الصبح والعشاء بغير ذكر الله تعالى، ومنه مباح كإنشاد الشعر.(عمدة البيان في معرفة فروض العيان ص 9 )

وبهذا  يتبين لنا أن الشريعة أعطت حرية التعبير وفتحت لها الباب قبل القوانين الوضعية , والدساتير المعاصرة , لكنها قيدتها ووضعت لها ضوابط معينة  يجب الالتزام  بها وعدم الخروج عنها , وهذه الضوابط هي :

ـ الضابط الأول : الالتزام بشرع الله

فلا ينبغي للمسلم الإعلام برأي يخالف شرع الله عز وجل ,فما ثبت من كتاب الله عز وجل أوسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  المتواترة ,أو أجمع عليه سلف الأمة , يحرم على الإنسان مخالفته ,لأن مخالفته من التقديم بين يدي الله ورسوله ,وقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  ) (الحجرات 1)

فالدليل القطعي , يجب اتباعه ومخالفته ,تدل على عدم  الإيمان قال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا  ) (النساء 65)

 وقال (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) (الأحزاب 36)

(وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان , وهو معنى الإسلام , فإن حقيقة الإسلام , هي الاستسلام  لله و الانقياد له ,ومن لم يرد إليه الأمر لم ينعقد له , ودين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,وإجماع الأمة , وهي الأصول المعصومة التي لا يجوز تجاوزها ولا الخروج عنها)  (الفتاوى 20/164)

ومن التلاعب بالدين , والفهم الخاطئ للتجديد , أن تعارض النصوص الثابتة , بالأفكار المعاصرة , أو بغيرها من الآراء فسفينة السنة , وإجماع الأمة هما اللتان  فيهما نجاة الأمة , وقديما قال أبو الزناد : إن السنن لا تخاصم  ولا ينبغي لها أن تتابع بالرأي أو التفكير , ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا وانتقلوا من دين إلى دين , ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم , ويتمسك بها على ما خالف الرأي أو وافقه . (الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص 222)

ـ الضابط الثاني : الالتزام بالصدق وقول الحقيقة

المسلم عليه أن يعبر عن  ما يقتنع به , ويرى أنه هو الأحسن وهو الحقيقة , وقد أمره  الله تعالى بذلك حيث قال (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  ) (الإسراء الآية 53)

ومن أنواع النفاق إظهار خلاف ما يبطن , وهو من إلباس الحق بالباطل , وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة 42)

ومن الرياء , و الكذب  ترك قول الحقيقة , تزلفا لفلان أو طمعا في مصلحة , أو تقربا من أصحاب النفوذ ومن علا مات ذلك التذبذب  في المواقف تبعا للطمع وقد وصف الله أهله  بقوله  (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) (النساء 42)

وقد كان الكذب من أبغض الأخلاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويدل على ذلك قول عائشة  رضي الله عنها , ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب . (عارضة الأحوذي ج8 ص 148)

ـ الضابط  الثالث : الالتزام بالتوسط والاعتدال  

فنحن أمة الوسط كما قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) أي عدولا ,فديننا دين الوسط , ودين العدالة بلا إفراط ولا تفريط .

فينبغي للآراء التي سننشرها بين الناس أن تكون آخذة بجانب الرحمة ـ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ـ مبتعدين عن الجلد الفقهي , الذي ابتلي به كثير من فقهائنا , وقصاصنا ,لا يرون  في الصلاة  إلا خطورة  تركها وعقوبة المتهاون بها , بينما ينسون أنها راحة وطمأنينة للبال (أرحنا بها يا بلال )  ووسيلة للمحافظة على الأخلاق الحميدة , ومبعدة عن الرذائل والأخلاق السيئة (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)  (العنكبوت 45)

سأل أحدهم محمد الغزالي رحمة الله عن حكم تارك الصلاة فقال: حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد  بهذا الفهم , وهذه الحكمة ينبغي أن تنشر الآراء .

وينبغي الحذر من التنطع  والتشدد في الآراء لأنه يفضي إلى التبديع , والتفسيق , والتكفير , وقد رسم لنا حجة الإسلام الغزالي قاعدة ذهبية في هذا الباب ,ينبغي لكل منا قبل أن يحكم على غيره  بالكفر أو بالبدعة  أن يقرأها ويفهمها .

يقول بعد أن ذكر أن قضية التكفير تحتاج إلى مجلدات لا يسمح  الوقت بذكرها

(فأنا أضع بين يديك , وصية , وقانونا

أما الوصية  فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها , والمناقضة تجويزهم  الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ,بعذر أو بغير عذر , فإن التكفير فيه خطر , والسكوت لا خطر فيه .

 ـ أما القانون فهو أن تعلم أن النظريات قسمان , قسم يتعلق بأصول القواعد , وقسم يتعلق بالفروع

وأصول الإيمان ثلاثة , الإيمان بالله , وبرسوله , وباليوم الآخر و ما عداه  فروع , واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا , إلا في مسألة واحدة  وهي أن ينكر أصلا دينيا , علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر .

لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات , وفي بعضها تبديع  كا الخطإ  المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة )                                            ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة  ص 13)

ـ الضابط الرابع : مراعاة المصلحة

الإسلام جاء من أجل سعادة البشرية , وذلك لا يتأتى  إلا بوجود  مصلحتهم  وتحقيقها فكل رأي لا يخدم المصلحة العامة , وليس وسيلة من وسائلها ينبغي عدم نشره بين الناس .

فالرأي الذي غلبت مصلحته على مفسدته ينبغي إخراجه  , وإظهاره للناس , وما تمحضت مفسدته الأحسن تركه والسكوت عنه , وما تساوت مصلحته , ومفسدته ينبغي  تركه لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .

وهذا باب عظيم من أبواب الدين , ينبغي الانتباه له , في وقت صار الرأي يكتب فيه في الصباح في مشارق الأرض  , ويقرأ في مغاربها بعد دقائق ( وإن تكا فأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينهى عنهما , فتارة يصلح الأمر , وتارة يصلح النهي , وتارة لا يصلح أمر ولا نهي , حيث كان المعروف والمنكر متلازمين , وذلك في الأمور المعينة الواقعة , وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن , حتى يتبين له الحق  فلا يتقدم على الطاعة إلا بعلم ونية ) (بن تيمية الحسبة ص 66) (الاستقامة 2/217)

الضابط الخامس : مراعاة المآل

فالآراء الاجتهادية  التي لا تبنى على النصوص الشرعية  القطعية , ينبغي لمن سينشرها بين الناس  أن ينظر في مآلها , وما يمكن أن تحدثه عبر الأجيال المتعاقبة , فكل رأي يمكن أن يؤدي إلى مفسدة ولو بعد حين فكتمه أولى من إظهاره .

وهذا يؤخذ من قاعدة سد الذرائع المفضية إلى المفسدة , ومعناها تحريم أمر مباح لما يفضي إليه من مفسدة . وقديما قيل : فما كل ما يعرف يقال .

ومن مراعاة هذه القاعدة مراعاة الواقع , وحالة المخاطب , فلا معنى للطعن في كتب السنة , وما أجمعت  عليه الأمة , ودونته في كتبها , في مواقع التواصل الاجتماعي  التي يقرؤها  العامي وغيره .

فمثل هذا النوع من الآراء ولو كان فيه المقبول , والمرفوض ينبغي أن يبقى بين طلاب العلم , والباحثين الشرعيين حتى ينضج ,لأن نشره فيه تخليط على العامة .

( فالذي ينتقد بعض كتب علماء أهل السنة , ويقرر أن فيها تقريرات غير معصومة فهو ــ وإن قرر حقا ــ إن أظهر رأيه في زمن تشرئب فيه الفتن , وتظهر البدع فقد ناقض هذا الأصل , وإذا حول إنسان دين الله تعالى ليكون وجهة نظر تعرض إلى جانب وجهة نظر أخرى مخالفة , فإنه وإن تعذر باستمالة المعارضين للإسلام , قد أعطى معارضة الشريعة شرعية وقدم مساواة مع الإسلام)  (محمد قطب ـ رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر ص 246 )

وكان من هدي الصحابة النظر في حال المخاطبين كما صح عن على رضي الله عنه أنه قال : خاطبوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله .

الضابط السادس : احترام الأديان والمقدسات

إن مما اتفقت عليه الأمم , والديانات السماوية , أن حريتك تنتهي حين تصل إلى حرية الآخرين (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ ) (الأنعام 108)

وهذا  المبدؤ القرآني نصت عليه كل القوانين الإنسانية اليوم ( فمثلا اعترض المسيحيون , على تصوير المسيح رجلا في إحدى المسرحيات , وعلى ظهور مريم العذراء على غلاف ألبوم مسيقي  في صورة غانية  , واعترض البوذيون على منحوتة إباحية لبوذا , واعترض السيخ على مسرحية في برنامج تصورهم كطائفة دموية , واعترضت الكنيسة العلمانية على طريقة تناولها في فليم يتهمها بالنصب والتربح , واعترض الكاتوليك  على حلقات ساخرة  تصور بابا الفاتيكان دمية تحرك من قبل محرك الدمى) ( أشهر 20 واقعة في سب الأديان , تقرير للتايمز لبريطانية  , ترجمة محمد حامد إيلاف 10فبراير ـ 2008 )

فالإسلام الذي فتح لك باب الحرية , لم يتركها مطلقة بل قيدها بعدم إلحاق الضرر الجسمي , أو النفسي بالآخرين , وقد قال صلى الله عليه وسلم , لا ضرر ولا ضرار  (ابن ماجه والدارقطني )

ومن الضرر بالآخرين سب الذات الإلهية , والتنقيص من خير البشرية , حبيبنا وشفيعنا إلى ربنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يحتم على كل دولة  تحترم قوانينها , أن تقف في وجه المستهزئين بالدين , والمتسلطين بألسنتهم وأقلامهم على المسلمين , بسب نبيهم صلى الله عليه وسلم .

فقد نص فقهاء السياسة الشرعية قديما أن أولى واجبات السلطان هي : حفظ الدين من تبديل فيه والحث على العمل به من غير إهمال له (أدب الدنيا والدين ـ الماوردي ـ ص 167 )

كما أن الأمة مطالبة جميعا بالوقوف في وجه هؤلاء , المستهزئين الخارجين عن القانون الإلهي , والقانون الإنساني , فتركهم في غفلتهم وسباتهم , سيؤدي إلى هلاك الجميع , كما في الحديث : مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة , فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ,فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا , فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا , وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا . (الترمذي وابن ماجه )

هذه هي حرية التعبير من الوجهة الإسلامية , وقد أثبتت التجارب  عبر المسيرة الإنسانية أنها هي سر التقدم في الدول التي تقدمت عبر التاريخ , وهذا ما يثبته الواقع في أيامنا .

لكن اتفق العقلاء قديما أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة , فكل حرية للتعبير غير مقيدة ما تفسده  أكثر مما تصلحه ومن أراد حرية بدون تقييد فعليه أن يعيش مع قوم  الشنفرى :

              ولي دونكم , أهلون : سيد عملس                    وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

             هم الأهل لا مستودع السر ذائع                     لديهم ولا الجاني بما جر يخذل  .