من أجل مدخل جديد للإصلاح السياسي/ صبحي ودادي

أربعاء, 24/05/2017 - 13:13

لا تزال التنمية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية، الهدف الكبير للبلدان السائرة في طريق النمو، ولا زالت هي مرجعية العمل السياسي وغاية المشاريع السياسية، وفضلا عن كون التنمية السياسية، بالمفهوم الذي سنتناوله هنا، تشكل جزء من التنمية الشاملة باعتبار اشتمالها على قيم وأهداف في غاية الأهمية، فإنها ولاعتبارات ترابطية واضحة، تشكل الشرط البارز لقيام التنمية الاقتصادية.. كما يشكل غياب الأولى السد المنيع دون تحقيق الثانية، ففي بيئات الفساد وغياب المشروعية السياسية والتمثيل السياسي السليم والمشاركة الشعبية الواسعة تغيب أي إمكانات للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، فضلا عن الرفاه والعدالة الاجتماعية والفعالية الاجتماعية.

وقد تضافرت عوامل متشابكة، فأعاقت التنمية السياسية في البلدان العالمثالثية، فالأنظمة السياسية الحاكمة في كثير من هذه البلدان جانبت الرشد، وفشلت بشكل متكرر وبشع في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أن البني الاجتماعية القبلية والعشائرية ساهمت بشكل كبير في مشكل التخلف الشامل لهذه المجتمعات، حين أعاقت بسب الذهنية والثقافة الاجتماعية ،التي أفرزها التخلف، تبلور وعي جماعي توحيدي، يُعلي قيم الشراكة والانصهار، وقد وظفت الأنظمة فاقدة الشرعية الأنانيات العشائرية والبُنى التقليدية المنكفئة على ذاتها في تدعيم حكمها.. والحيلولة دون تحقق حراك اجتماعي يفرز غيرها.

الثروات الباطنية التي تمتلكها بلدان الجنوب تم توظيفها لشراء الولاء السياسي من القوى الاجتماعية التقليدية، وهو ما عرف بالدولة الريعية التي تهدر مقدرات التنمية في سبيل كسب الشرعية المؤقتة وإسكات الأفواه بالفتات وترضية الجموع بالسراب، ومن الغريب أن بعض البلدان التي لا تمتلك مقدرات وافرة لإسكات الثورات الاجتماعية المحتملة، قد مُكنت من طرف البلدان الصناعية من خلال المساعدات الخارجية المشروطة من تحقيق نوع من دولة الريع، هو الريع الخارجي الذي تتقاسمه الفعاليات الاجتماعية التقليدية.. ويُبنى من خلاله نظام غير تمثيلي، تقليدي، غير راشد.. 

لقد كان هدف الدعم السياسي والمالي (اقتصاد الهبات والمساعدات) الذي قدمته البلدان الصناعية هو "الوقاية" من الثورات التي قد تفرز أنظمة سياسية لا تقبل استمرار التوزيع غير العادل للعمل الدولي، المتمثل في إبقاء هذه البلدان مَصدرا للمواد الأولية، أو تسعى إلى نهضة صناعية تشكل خطرا على "الأسواق العالمية"..

تشخيص الداء 
إذا كانت المشكلة التنموية شاملة ومعقدة ومتشابكة، فإن لب هذه المشكلة يظل متعلق بالجانب التدبيري في حياة هذه المجتمعات، وهو جانب لا يمكن تصور التعاطي معه وتحسينه بمعزل عن تصحيح المشكل السياسي، باعتباره أهم الجوانب التدبيرية وأوسعها أثرا، خصوصا إذا نظرنا إلى الأبعاد العميقة والجوانب المهمة التي تمثل جوهر التنمية السياسية.

عند تصفح الأدبيات المعرّفة لمفهوم التنمية السياسية نجد حضورا لثلاث مميزات كبرى، رغم اختلاف المدارس السياسية والتنموية، هي الشرعية السياسية، والتمايز والتخصص لدى المؤسسات السياسية وثالثا تحقق المشاركة السياسية للمجتمع..

المنتظم السياسي لبلداننا يتميز بتعقد مشكل السلطة ممارسة وتداولا، وبغياب الشرعية السياسية الحقيقية لأنظمة الحكم، ولذلك لا زال العنف يميز هذه المجتمعات ويشغلها عن كل تنمية، سواء تعلق الأمر بعنف الدولة أو عنف الجماعات السياسية والمجموعات الفكرية التي أفرزها الانسداد السياسي والاجتماعي والعجز الاقتصادي، وقد نتج عن مشكل الشرعية السياسية هذا ضعف البناء المؤسسي لأجهزة الدولة، ومن ثم غياب المعنى الحقيقي لدولة القانون، والمقتضى الحقيقي لوثيقة الدستور، وحتى في البلدان التي ينتظر أن يشكل إرث الدولة فيها ثقلا كبيرا في الحياة الاجتماعية والسياسية تحولت المؤسسات إلى تشكيلات لوبية لمجموعات ضيقة تتبادل النفوذ والسلطة، في حين تحولت في بلدان أخرى إلى هياكل خاوية على عروشها تعكس بنية شكلية وواجهة تجميلية لأنظمة تسلطية أو إفسادية ذكية.

المظهر الثالث والأخطر الذي تفرزه الأعراض المرضية السابقة، هو داء التشظي الاجتماعي وضعف الانصهار والانتماء للجماعة الوطنية، فالانتماء الشكلي للشعب لا يخفي الانتماءات والولاءات للجماعات القبلية، والفئوية، والمذهبية، وهو ما يؤثر على الانخراط الطبيعي في النشاط السياسي، بل يوظف العملية السياسية لتعميق التباينات الثقافية الطفيفة، وإحياء النعرات الجاهلية والطبقية، وهو أمر تتغذى عليه الأطراف الداخلية والخارجية التي لا ترى في النهوض السياسي لهذه البلدان إلا حرمانا من امتيازات أو مواقع أو مكاسب.

المدخل الاقتصادي والثقافي
لقد تم التوظيف السابق للثقافة الاجتماعية المنكفئة والعاجزة عن التعايش بفعل الواقع الاقتصادي والثقافي للناس، فالمراقب لما أفرزته العمليات الديموقراطية الشكلية التي مارستها كثير من البلدان المتخلفة يلحظ كيف تم تعميق المشكل السياسي ومأسسته وإكسابه الشرعية المزيفة من خلال استغلال حاجة الناس وفقرهم، وتوظيف سيف الدولة وذهبها لفرض من تشير بهم.

ومن ثم يظل الناس عاجزين نفسيا وذهنيا عن الأخذ بحقوقهم، أو فرضها، ما داموا لا يستطيعون رؤية أنفسهم قادرين على ذلك، وسيظلون في حالة استخذاء لعرابي الدولة الريعية من رموز اجتماعيين، وأطر دولة ونشطاء عشائريين اتخذوا من السياسة وسيلة لتحقيق ذواتهم الأنانية أو احترفوا السياسة للعيش، كما يظل العمل النضالي تائها وبلا مردود، لأنه يضرب في حديد بارد، ويعالج فتح باب بالمفتاح الخاطئ، ولذلك حين أترعت هذه الأنظمة كأس الظلم والإفساد، وقامت قيامة الثورات، لم تحتج سوى لاستدارة خبيثة لتزييف الوعي أو لإيقاظ الفتنة، أو لتوسيع الرشوة.

التمكين الاقتصادي هو وحده الكفيل بتحرير الشعوب المسكينة من ارتهانها لمن يعدها بقطرة ماء هي جزء من حقوقها الأولية، أو برشوة مباشرة يهدر بها كرامتها، أو يشغلها بملهاة بدائية تعيدها لجاهلية جهلاء، وما دام أن التمكين الاقتصادي مستحيل بغير أدوات الدولة التي ترعى الجهل والفقر، فإن كسر هذه الحلقة المفرغة (التنمية السياسية لن تتم بدون تمكين اقتصادي، والتمكين الاقتصادي لا يمكن أن يتم بغير إرادة سياسية مفقودة) يتطلب وعيا نخبويا ورؤية تغييرية جديدة، يستوعب أصحابها أبعاد المشكلة ويعون تشابكاتها، ويسعون من خلال عمل ثقافي وتعليمي وتوعوي خاص إلى تخليص الناس من فقر القدرات حتى يتخلصوا بأنفسهم من الفقر النقدي والفقر المادي، وفقرُ القدرات هو فقر ذهني بالأساس، سواء تعلق بافتقاد المهارات أو تعلق بالجهل أو تعلق بالثقافة المميتة التي تقف بأصحابها دون شق طريقهم وتحقيق ذواتهم بعيدا عن الناشط العشائري والمحترف السياسي والمتسلق الفئوي..

 

وقد يساهم هذا التوجه في بناء قطاع خاص جديد، غير القطاع الخاص الحالي الذي لم يعكس حركية اجتماعية، بل كان أحد مظاهر الفساد وتقاسم النفوذ، وساهم في تجذير المشكل السياسي، حين تحولت العملية الديموقراطية تحت رعايته إلى تحالف بين المال الحرام والسلطة اللاشرعية، القطاع الخاص الجديد الذي نتمنى ميلاده، له وشيجة قربى بالمجتمع الأهلي الإسلامي القديم.. على مستوى الهوية العلمية (القدرات) والهدف الأخلاقي (الطابع غير الاحتكاري). 

أما كيف يتحقق ما سبق؟ فمن خلال توظيف الإعلام والتعليم لتحقيق التنمية، وتوظيف التنمية لتحقيق الوعي السياسي، والنخبةُ التي نعول عليها، تمثلها اليوم بذرة المجتمع المدني الرسالي، غير الطفيلي، تلك التي تجيد الالتقاء بالناس في عرصات كدحها، لا تلك التي تمهر في الأنشطة الديكورية، تلك التي يمكن أن تصل إلى عقول الناس وقلوبهم. وهذا يعني أن تتاح فرصة أكبر ويعطى جهد أعظم للتعليم الأهلي الذي يصنع العقول ويكسب القلوب لمعركة التنمية السياسية والتنمية الشاملة، التي تشكل شرطا للوعي بالذات والشهادة على الناس، والعيش الكريم للمجتمعات.