فن "إسلامي".. أم فن إنساني؟ / إخليهن ولد الرجل

أربعاء, 05/04/2017 - 12:33

تأسس فكر الحركات الإسلامية منذ نشأتها الأولى على أساس الرفض للوضع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري القائم في المجتمعات الإسلامية باعتباره -من وجهة نظرها- يمثل انحرافا عن الدين وخروجا على أحكامه، وانطلاقا من هذا فقد بنت غالبية هذه الحركات -الحركات الإسلامية السياسية- نظريتها الدعوية على التغيير لا على الإصلاح.

صحيح أن عامل الزمن وعامل التجربة ومجابهة صعوبات الواقع جعلا هذه الحركات تتنازل عن المثالية الحالمة وتطور نظرياتها في الكثير من القضايا وتسعى إلى إصلاح ما اعتراها من دخن بدلا من تغييرها كلية والمجيء ببديل عنها، إلا أنها مازالت متصلبة على مواقفها في قضايا أخرى كبيرة ولها تأثيرها العام على الإصلاح الاجتماعي والثقافي، ومن ذلك الموقف من (الفن)، و"البديل الإسلامي" فيه.

إن أغلب الإسلاميين في البلدان العربية يتبنى موقف الرفض لما هو قائم من الفن، وبالتحديد في مسألة الغناء والموسيقى أو "السماع" وفق تعبير الفقهاء. ومع أن بعض الإسلاميين قد يكون محقا في رفضه للقائم من الفن في مظاهره الحديثة؛ وذلك باعتبار ما وصلت له بعض الدول العربية من تأثر بالحضارة والثقافة الغربية جعلت الفن فيها ينحرف عن نمط الفنون التي راكمتها الحضارة العربية/ الإسلامية ويلبس ثوبا غربيا، غريبا كل الغرابة على ثقافة المسلمين، ويمثل خروجا فاضحا على أحكام دينهم.

إلا أن البديل الذي وفره هؤلاء الإسلاميون (النشيد الإسلامي) لا ينافس، وليس له سطوة الفن وتأثيره الجبار والقوي على النفوس والوجدانيات، بل إنه أقرب إلى المواعظ الدينية وإلى الإرشادات التي لا يستمع لها إلا جمهور محدود من الناس، هو جمهور المتدينين..

إضافة إلى هذا هناك بعض الإسلاميين لم تتلوث فنون بيئاتهم -كثيرا- وفلكورها الشعبي بفنون الغرب المنبعثة من ثقافته المادية، بل ظلت تلك الفنون وفية للحضارة الإسلامية، وتستمد مضامينها -في الأغلب الأعم- من التصور الإسلامي مع ما شابها من دخن لا يلغي أصالتها، لكن هؤلاء الإسلاميون بدلا من أن يسعوا لتهذيب هذه الفنون ومعالجة ما فيها من دخن، غلبت عليهم عقلية التقليد، فوقفوا منها موقف الرفض والمحاربة، وفضلوا استيراد بدائل مهما يكن طابعها ومضمونها الإسلامي إلا أنها لا ترقى إلى مستوى الفن ولا تعبر عن مشاعر شعوبهم ولا تتجاوب مع ذوقهم وحسهم الفني والجمالي وخصوصياتهم الثقافية بل وحتى لهجاتهم المحلية.

وهذا ما جعل العديد من أتباع هذه الحركات يستمعون إلى الغناء والموسيقى ويتابعون الإنتاج التلفزيوني والسينمائي في الكثير من جوانبه، مثل غيرهم من أبناء المجتمع، فلم يبق إلا حرمان الدعوة من الإفادة من الفن وعطاياه في التأثير.

على الإسلاميين -إذا كانوا جادين في الاستفادة من الفن وتأثيره الكبير على الشعوب في غزو عقولها وتحريك قلوبها- أن يتجاوزوا مقولات "الفن الإسلامي" و"البديل الإسلامي" التي كلفتهم الكثير من العناء ولم يجدوا من ورائها طائلا، ويتعاملوا مع ما هو قائم من الفنون في أوطانهم -على الأقل في البلدان التي لم تغزوها الفنون الغربية- ما سلمت مضامينه من التناقض البَيِّنٌ مع الطهر والعفاف، ويسعوا الإصلاح وإنكار ما كان منه ليس كذلك.

في الحقيقة لا يوجد فن إسلامي! بالمفهوم الذي يتبادر إلى الذهن والذي كرسه الإسلاميون في خطابهم وفي أذهان الناس؛ بمعنى أن الإسلام سعى إلى تأسيس تصور للفن، ولكن يوجد فن إسلامي باعتبار آخر، وهو ما راكمته الشعوب الإسلامية في هذا المجال، وهذا في الحقيقة هو مجموعة فنون وليس فنا واحدا باعتبار كل شعب من شعوب الأمة المسلمة التي استوعبت مختلف الأعراق والأجناس والألسن، له خصوصيته الثقافية التي تجعل لفنه طابعا خاصا مختلفا عن غيره من الفنون، ولكن ما يجمع هذه الفنون كلها -على تعددها- هو أنها تنطلق من التصور الإسلامي -أو هكذا يفترض- مع ما شاب بعضها من انحرافات ينبغي تنقيتها منها لا رفضها كلية. مع استثناء قليلة غزاها الفن الغربي فسلبها لباسها الأصيل وكساها ثوبا غربيا.

إن الحضارة الإسلامية قد راكمت عبر تاريخها الذي شهد فترات مضيئة -ليست بالقلية- مجموعة من الفنون والآداب والجماليات في البيان والموسيقى والفلكلور والخط والزخرفة والفن المعماري... هي الأقرب إلى ذوق شعوبنا العربية الإسلامية، وإلى حسها الجمالي، من الفن في مظاهره الحديثة التي تحاكي الفن الغربي المنبعث من النظرة المادية، ولا زال هذا الفن هو المسيطر على الخيال الفني والنظرة الجمالية في العديد من البلدان العربية/ الإسلامية.

إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو المشرع لم يؤسس لفن إسلامي ولا سعى لذلك، بل غاية ما كان يفعله هو إنكار ما يشوب الفن السائد في بئته من انحرافات في التصور أو في السلوك، وكان يستمع إلى شعر أمية بن أبي الصلت وغيره من شعراء الجاهلية، وربما سأل بعض أصحابه «هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شيئا؟». فينشده منه المائة بيت (كما جاء في صحيح مسلم)، وكانت تأتيه المرأة من الصحابة فتقول: «يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى» فيقول: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا» (رواه الترمذي وصححه)، وربما دخل المجلس وفيه جويريات يضربن بالدف ويتغنين فلا ينكر شيئا من ذلك، حتى إذا عبرت إحداهن تعبير مخالفا للتصور الإسلامي وقالت: «وفينا نبي يعلم ما في غد» أنكر عليها بقوله: «لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين» رواه البخاري. وهكذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسعى إلى تأسيس فن إسلامي في مقابل الفن الجاهلي بل تعامل مع الفن على أساس التعامل مع ما هو قائم منه؛ بإقرار ما كان منه حسنا، وإنكار ما كان فيه انحراف بَيِّنٌ عن الإسلام.