التدافع بين الحق والباطل

اثنين, 13/04/2015 - 13:00

الدكتور: حيدر الصافح

مما يجب أن يعيه المسلمون جيداً في صراعهم مع الباطل، معرفة تناقضاته واختلافه ـ وإن بدا متماسكا ـ غير أن الحقيقة خلاف ذلك {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[الحشر:14].

هذه حقيقة، والحقيقة الأخرى التي ينبغي أن تفقه وتدرك، هو أن الله جل جلاله جعل من سنن الحياة البشرية التي لا تتخلف سنة التدافع، التي أوضحها سبحانه في كتابه فقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:251]، وقال سبحانه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40].

فمحاولة جمع البشر جميعا على مذهب واحد وسياسة واحدة ونظام واحد ـ كما يروج له النظام العالمي الراهن بقيادة الأمريكان ـ غير ممكن ولا واقع؛ لأن الله جل وعلا لم يشأ ذلك، ولم يرده كونا وقدرا، كما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[هود:118-119]. فلولا أن الله سبحانه وتعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد بأهل الصلاح والإصلاح، وأهل الظلم بأهل العدل فيها لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض وطغوا على الصالحين، وإذا انفرد الطغاة بالسيطرة فسدت الأرض، وأسنت الحياة بالظلم والشرك وعمل المعاصي.

فكان من فضل الله على عباده وإحسانه إلى جميع الناس أن شرع الجهاد، وأكد عليه وشدد في أمره، وربط الحياة به، وجعل التهلكة في تركه؛ ليقوم المؤمنون بالجهاد لمقارعة المفسدين، وقمع المتسلطين المجرمين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان ومكان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وصدقوا في قصدهم وإرادتهم الإصلاح في الأرض.

فحب السيطرة وتنازع البقاء بين البشر يجعلهم متصارعين متدافعين متغالبين. وهذا التدافع ـ في تقديري ـ لا يخص المسلمين والكافرين فحسب، بل يشمل كافة الناس على اختلاف توجهاتهم واعتقاداتهم، وهذا واضح في التاريخ البشري القديم والجديد وواقعنا المعاصر:
ففي القديم، كان الصراع والتدافع بين الفرس والروم في صورة دول، وكذا بين القبائل والعشائر، ثم التدافع بين المسلمين وبين الدولتين المذكورتين، ثم تستمر حركة التاريخ موارة متدفقة تتدافع الأمم والشعوب.

وإذا ما جئنا لعصرنا كانت هناك بريطانيا تتدافع مع غيرها من الدول للسيطرة والتغلب، ثم غاب شمسها وأفل نجمها. وظهر الاتحاد السوفيتي وأمريكا قطبين بارزين متصارعين متدافعين، ثم انهار الاتحاد السوفيتي وذهب إلى غير رجعة بكفره وإلحاده وبطشه وغشمه وظلمه. ثم ظهرت أمريكا كقوة تظن أنها قادرة على السيطرة على الأرض وإزاحة الآخرين، ولكن سنة التدافع بارزة صارخة في وجهها.. فالصين تتربص بها ريب المنون، والاتحاد الأوربي يتشكل ويتجمع لمواجهة الغول الأمريكي، وهناك دول ومحاور وجماعات ترفض وتقاوم هذا الطغيان..

غير أن الصراع الأقوى والتدافع الأبرز هو التدافع بين الحق والباطل، والصراع والتدافع بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل حتمي لا مفر منه؛ لأنهما نقيضان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الأخر وطرده ودفعه وإزالته، أو إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة على أقل تقدير. فلا يتصور إذن أن يعيش الحق والباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر، إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني، أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم .

وكلمة التدافع تعني الإزالة بقوة، فتدافع الحق والباطل أي تدافع أصحابهما يكون بقوة حيث يسعى كل من أهل الحق والباطل إلى تنحية الآخر عن مكانه ومركزه والغلبة عليه، فأهل الباطل لا يكتفون ببقائهم على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله، وإزالة هذا الحق بالقوة؛ لتحقيق ما يريدون.وقد أمر الله المؤمنين بأخذ الحيطة والحذر، وأمرهم بالإعداد والأخذ بأسباب القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من العدوان، كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[الأنفال:60].

وقد ضمن الله لعباده النصر والظفر والغلبة على أهل الباطل، وحكم على الباطل بالمحق والزوال والاندحار كما قال سبحانه: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الشورى:24] وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء:18]، وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)[الفتح:22-23].

فإدراك هذه المعاني مما يساعد المسلم على القيام بواجبه في بذل الأسباب والاستفادة من تناقضات الباطل والتعامل معها بما يحقق هدفه في نشر دعوة الله وتحييد من يمكن تحييده والتعاون مع من يمكن التعاون معه وإيجاد لغة مشتركة.. وستبقى النفوس لديها القابلية للحق والعدل والإنصاف والنفور من الظلم والاستكبار.

هذه الأمور يمكن أن توظف في صالح الدعوة والدعاة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا بد أن يفهم ويدرك جيدا أن الحق لا بد له من قوة تحميه وتدافع عنه، لابد من إيجادها وتطويرها، وهي مسئولية الأمة بكاملها، ولكن الصفوة المختارة لحمل هذه الأمانة هي المرشحة للتعامل مع هذه المعطيات وتوعية الأمة بذلك والسير بها قدما في طريق العزة والنصر والتمكين.. ولذا شرع الله الجهاد وجعله فريضة ماضية باقية إلى قيام الساعة، فإهمال هذا الأمر ونسيانه من أسباب تأخير النصر، وإبقاء الأمة مرتهنة للذلة والصغار تحت سيطرة وهيمنة الكفار.

إسلام ويب