فقه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

خميس, 04/06/2015 - 10:44
محمد الحافظ الغابد

اهتمت المواثيق الدولية والدساتير الوطنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اهتماما كبيرا كاهتمامها بالحقوق المدنية والسياسية وطيلة العقود الماضية جرى نقاش حول أولويات ترتيب الحقوق هل الأهم الحقوق المدنية والسياسية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

رغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ساوى بينهما. وكأن فترة التنافس بين الأفكار الليبرالية والاشتراكية تركت بصماتها على أدبيات حقوق الإنسان غير أن السنوات الأخيرة شهدت عودة للبنية الأصلية التي اقرها الإعلان العالمي بتساوي هذه الحقوق جميعا مع أن ثمة فرقا كامنا في طبيعة هذه الحقوق لاحظه الدارسون وهو أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتطلب من الدول استثمارات وإمكانيات أكبر بينما لا تتطلب الحقوق المدنية والسياسية نفس القدر من التمويلات وإنما تتطلب منها الكف عن انتهاك حقوق الأفراد بشكل عام.

 

" ويبقى التمتع بجميع حقوق الإنسان مترابطا. إذ كثيراً ما يكون من الصعب على الأفراد الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة مثلا أن يجدوا عملاً، أو أن يشاركوا في نشاط سياسي أو أن يمارسوا حقهم في حرية التعبير. وإذا تمكن الأفراد من حقوقهم السياسية فإن ذلك قد يمكنهم من تفادي الكوارث والمجاعات عندما يكون بوسع الأفراد أن يمارسوا حقوقهم السياسية، مثل الحق في التصويت. وبناء على ذلك، فإن التفريق بين الحقوق والتميز بينها بحدود صارمة فهي كلها حقوق يترتب بعضها على بعض ويمهد بعضها لبعض.(أنظر موقع مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة http://www.ohchr.org/AR).

 

وسنتناول هنا جملة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في الغذاء والصحة والتعليم والشغل والإضراب والملكية.

 

أولا: الحق في الغذاء والصحة:

الحق في الغذاء هو أحد حقوق الإنسان المنصوص عليها فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد: "أن لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية له ولأسرته وخاصة على صعيد المأكل"(المادة25 من الإعلان العالمي) أما العهد الدولي لحقوق الإنسان والذي يشكل جزئا رئيسيا في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان فقد نص على الحق في غذاء كاف باعتباره جزئا جوهريا من الحق في "مستوى معيشي كاف له ولأسرته يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية" (الفقرة1من المادة 11). و يعترف أيضا صراحة بــ"أن لكل إنسان حقا أساسيا في التحرر من الجوع" (الفقرة 2 من المادة 11).

 

أما في الشريعة الإسلامية فإن هذا الحق مصون وقد ورد في الأثر عن أبي ذر رضي الله عنه عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"(وصف هذا الأثر بالغرابة لانعدام سنده) ونفس المعنى نجده عند بن حزم في المحلى بقوله: "إنه إذا مات رجل جوعا في بلد اعتبر أهله قتلَة، وأخذت منهم دية القتيل، - ويضيف ابن حزم بأن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره "فإن قُتِل -أي الجائع- فعلى قاتله القصاص، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله لأنه منع حقا وهو طائفة باغية".(انظر ابن حزم، المحلى، الجزء السادس، المسألة رقم 725 ص226 و227).

 

وعن أبي سعيد الخُدرِيُّ رضي الله عنه ، قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل على راحلة فجعل يضرب يمينا وشمالا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " . من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له " قال : فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل . رواه مسلم .  وهذا يشهد لما ذهب إليه ابن حزم. وهو قريب مما نسب إلى أبي ذر في قوله السابق. 

 

والتجربة التاريخية للدولة الإسلامية في العهد الراشدي تؤكد اعتناء كبيرا بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقد ورد في كتاب الخراج لأبي يوسف: "أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رأى شيخاً يهودياً على الباب فسأله عن ذلك فأجاب: إنها الحاجة والجزية والسن، فقال: ما أنصفناك أكلنا شيبتك وتركناك عند الهرم، فطرح جزيته وأمر أن يعال من بيت المال هو ومن يعوله... وجاء في عهد سيدنا خالد بن الوليد، لأهل الحيرة، وهم من النصارى الآتي: وجعلت لأهل الذمة أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام"... وقد وصلت كفالة بيت المال أن فرض الخليفة (عبد الملك بن مروان)، راتباً لخادم المُقْعَد، وراتباً لقائدِ الأعمى!.

 

وفي لحظة من لحظات تلك التجربة في دولة الخـلافة، وصل الناس إلى مستوى من الاكتفاء والرفاهية لا يحتاجون معه إلى مساعدة بيت المال لتوفّر حاجاتهم ورفاهيتهم، فقد حدَّث يحيى بن سعد عامل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز؛ قال: "بعثني أمير المؤمنين على صدقات أفريقيا فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً يقبل الزكاة ولم نجد من يأخذها منا، وقد سمعت الناس يقولون: لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس" (المصدر: كتاب الخراج لأبي يوسف).

 

وأما الصحة فهي حق إنساني تجب رعايته من طرف الدولة وقد ورد في السنة النبوية "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" فرعاية الصحة التزام من الفرد مطلوب وملزم وواجب تنهض به الدولة. فعلى الفرد أن يبتعد عن كل ما يضر بصحته ويعمل على ما يحافظ عليها وقد ورد الأمر بالصيام لما ينطوي عليه من منافع صحية "صوموا تصحوا" و"ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه.. فإن كان ولابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" وفي الأثر الآخر:"المعدة بيت الداء والحمية أصل الدواء" وقد ورد عن عمر رضي الله عنه:"عليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد من السرف وأصح للبدن".(صبحي عبده سعيد السلطة والحرية في النظام الإسلامي ص191).

 

ثانيا: حق التعليم والعمل

نصت المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الفقرة ( 1 )  "على أن لكل شخص الحق في التعلم،" وألزمت هذه الفقرة الدول الموقعة على الإعلان أنه:"يجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزامياً وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني،".

 

ونظرا لأهمية المساواة في خدمة التعليم في العديد من البلدان التي تعرف أشكالا من التميز نتيجة هيمنة الفوارق الطبقية والقبلية والإثنية فقد جاء التأكيد على  أنه "يُيَسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة".

 

وفي الفقرة ( 2 )من المادة26 جاء النص على أنه" يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية".

 

أما في الشريعة الإسلامية فإن الإسلام يرفع مستوى هذا الحق إلى الفريضة التعبدية والتي هي في فقه الدين من أجل القرب لله تعالى وقد بدأت الرسالة الإسلامية أول ما بدأت بالأمر بالقراءة :" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)". وحث القرآن على التعلم وعلق خشية الله بالعلم:" "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" وبينت السنة أن طلب العلم والسعي فيه فريضة إسلامية:" طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" قال ابن عبد البرِّ رحمه اللهُ في كتابه "جامع بيان العلم"في تعليقه على هذا الحديث : "قد أجمع العلماءُ على أنَّ من العلمِ ما هو فرضٌ متعيَّنٌ على كلِّ امرئٍ في خاصَّة نفسِه، ومنه ما هو فرضٌ على الكفايةِ إذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن أهلِ ذلك الموضعِ". (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله. لابن عبد البر .. ص5 – 7).

 

وأما حق العمل فقد نصت عليه المواثيق والقيم الدينية وجاء في البند السابع عشر من البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام : أن العمل شعار رفعه الإسلام لمجتمعه(وقل اعملوا) وإذا كان حق العمل الإتقان(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) فإن حق العامل:

 

1ـ أن يوفى أجره المكافئ لجهده دون حيف عليه أو مماطلة له :(أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) (رواه بن ماجه في سننه).

 

2ـ أن توفر له حياة كريمة تتناسب مع ما يبذله من جهد وعرق (ولكل درجات مما عملوا) (الأقحاف الآية 19).

 

3ـ أن يمنح ما هو جدير به من تكريم المجتمع له (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(التوبة الآية105) وري الطبراني في مجمع الزوائد( إن الله يحب المؤمن المحترف).

 

4ـ أن يجد الحماية التي تحول دون غبنه واستغلال ظروفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة:(رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فستوفى منه ولم يعطه أجره).(أخرجه البخاري).

 

5ـ أما الإعلان العالمي فقد نصت المادة23 في القرة ( 1 ) على أن "لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية كما أن له حق الحماية من البطالة" وفي يخص الأجور نصت الفقرة( 2 ) أن "لكل فرد دون أي تمييز الحق في أجر متساو للعمل"الذي يقوم بتأديته وأكدت الفقرة ( 3 ) أن "لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان تضاف إليه، عند اللزوم، وسائل أخرى للحماية الاجتماعية".وفي ما يخص حماية حقوق العمال جاءت الفقرة الرابعة من المادة 23 لتؤكد أن "لكل شخص الحق في أن ينشئ وينضم إلى نقابات حماية لمصلحته".

 

وفي ما يخص الحقوق اللصيقة بالعمل، كالراحة، وتحديد ساعات العمل والعطل، نصت المادة 24 على أن "لكل شخص الحق في الراحة، وفي أوقات الفراغ، ولاسيما في تحديد معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية بأجر".