الرئيس محمد جميل منصور يكتب في السراج : التشريع الإسلامي بين المطلق و النسبي (ح1)

أحد, 05/07/2015 - 11:55

طرحت التطورات الفكرية و الحياتية التي شهدتها البشرية في القرن الماضي تحديات كثيرة أمام الفكر الإسلامي و المشتغلين به ، و انطلقت على ضوئها مراجعات و قدمت أطروحات سعت في أغلبها إلى الإجابة على الأسئلة التي أفرزتها هذه التحديات ، و اختلفت الزوايا التي نظر بواسطتها أهل العلم و الفكر إلى هذه الأسئلة بل اختلفت المنهجية في التعاطي ، ففريق اهتم بتقديم الفتاوى مجزأة حسب الأقضية التي تستجد أو الأسئلة التي تطرح أو الإكراهات التي تفرض نفسها و كان من هذا الفريق أفراد و مؤسسات و اشتهرت في هذا الصدد مواضيع في الطب و الأحوال الشخصية و المسائل المالية و المستجدات العلمية ،

و فريق آخر اهتم بالنظر الكلي في الموضوع و اعتبر أن حجم التحدي الفكري أكبر و أوسع و أكثر تعقيدا و أوسع أثرا من التعامل معه بالطريقة الإفتائية التقليدية و يتطلب إبداع منهجية متكاملة ،

 

و هكذا بدأ الاستدعاء ، استدعاء العلوم التاريخية عند المسلمين التي تساعد في هذه المهمة العلمية و المنهجية ، تذكروا أن الفقه الاسلامي تعايش مع أحوال و ظروف و سياقات متباينة فكيف و تكيف " و لا عجب أن دخل هذا الفقه شتى البيئات و الأوطان ، و حكم مختلف الأجناس و الألوان ، من أعراب البوادي إلى ورثة الحضارات العريقة في بلاد الأكاسرة و القياصرة و الفراعنة و التبابعة ، و قد واجه نظما متباينة و عادات متضاربة و أفكارا متباعدة و أوضاعا متغيرة و أحوالا متقلبة ، فلم يضق ذرعا بالإفتاء فيها ، و التشريع لها ، و القضاء بينها بالقول الفصل و الحكم العدل " (1) و هي الشهادة نفسها التي قدمها باحث من نوع آخر هو الدكتور وائل حلاق الذي يقول متحدثا عن تعددية الفقه " فقد زودته بقدر كبير من المرونة و القدرة على التكيف في إدارة مجتمعات و أقاليم مختلفة جذريا من المغرب إلى أرخبيل الملايو ، و من بلاد ما وراء النهر سيحون إلى الصومال " (2)

و طبيعي أن يكون التركيز على علم أصول الفقه الذي اعتبر من قبل كثيرمن الدارسين في الحقل الإسلامي و من خارجه التطور المنهجي الأبرز في تاريخ النظر عند المسلمين ، و معروف أن هذا العلم تطور على نحو واسع من عهد الإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه " الرسالة " الذي يعتبر باكورة التأليف في هذا العلم إلى تبلور " المقاصد " مع أبي إسحاق الشاطبي(3) بكل ما تضمنته من سعة منهجية و تركيبية أعطت للعقل الإسلامي مجالا و أمدا واسعين ،

 

و هكذا ستفيد المدونة الأصولية مدرسة البحث عن منهجية متكاملة للإجتهاد الإسلامي المعاصر ، و هنا سيبدأ النظر للتشريع الإسلامي بمعناه العام في استحضار ثنائية المطلق و النسبي التي تهدف لوضع الحدود دائرتيها ، دائرة المطلق الذي يتجاوز الزمان و المكان فلا يتأثر بتقلب العصور و لا باختلاف الأمصار و دائرة النسبي التي يختلف التعاطي معها من حال إلى حال و من فترة إلى أخرى و تصطبغ بعوائد و أعراف و خصوصيات الأمم و الشعوب و قد صاغ الدكتور حسن الترابي هذه الثنائية بلغته الخاصة " و الحق في تصور الدين أنه توحيد بين شأن الله و شأن الإنسان في الدنيا ، بين المطلق الثابت و النسبي المتحول ، و يكمن البلاء المبين في المفارقة الدائبة التي تطرأ بين الحق الأزلي و القدر الزمني و يكمن الموقف الديني في التزام التكليف الشرعي بمجاهدة تلك المفارقة حيثما طرأت و محاولة تحقيق التوحيد في كل حال " (4)

و نحن إذ نقدم على طرح هذه الإشكالية أو هذه الثنائية فلأن وضوح النظر في شأنها و ضبط القواعد في التعامل معها عاصم منهجي في بلورة الرؤى و تحديد الاختيارات ، فمما يربك أي مسار نظري أو بناء فكري هو غياب الأرضية التي تحكمه فيؤدي ذلك إلى اضطراب في التوجهات و التقريرات التي قد تعتبر أمرا في حال و تناقضه في آخر ، تسمح بمرونة في قضية ثم تضيق في أخرى و في الغالب يتأثر بهوى اللحظة أو ضغط الحال أو إكراه المجال ،

 

 

و سنجتهد في هذه الورقة في تناول هذا الموضوع من خلال منطلقات و ضوابط تتحدد على ضوئها فلسفة الفهم و حدود الثوابت و مجال المتغيرات و ترسم بناء عليها طبيعة العلاقة بين الديني و الدنيوي و ما يترتب على ذلك من اختيارات و خلاصات ستحكم المحور الثاني الذي سنحاول فيه تنزيل هذه المعاني الفكرية و المنهجية على الفقه السياسي أو الفكر السياسي متوقفين عند خصوصيته مارين على أثر العنصر الزمني و التجارب السابقة عند المسلمين و علاقة الوحي و التاريخ في ذلك السياق خالصين إلى جملة من الخلاصات اعتبرناها بمثابة مقاربة في الفقه السياسي و منتهين إلى فتح آفاق لبحث ينبغي أن يتواصل و يتطور .

أولا : منطلقات و ضوابط :

                                                " ..... فكان منها نقية قبلت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا

                                                         و سقوا و زرعوا ...... "          من حديث شريف رواه مسلم

                                                        " كان السلف يفسرون و يتأولون و يعللون و على الواقع ينزلون

                                                         فمن لم يتبين هذا المنهج فسكوته أفضل من كلامه و جلوسه خير

                                                         من قيامه ، و الله المستعان "       الشيخ عبد الله بن بيه  

 

نسعى من خلال هذه الضوابط أو هذه المنطلقات إلى تصور رؤية متكاملة عن فهم المنظومة الاسلامية تكون وسيلة لحد الحدود بين المطلق و النسبي في هذه المنظومة ، و مع إدراكنا للصعوبات أمام ذلك نظرا للتداخل الذي وقع زمنا طويلا بينهما و الاحتماء الذي لجأت إليه مدارس إسلامية عديدة بالمقدس و المطلق حتى تضفي على اختياراتها و اجتهاداتها صفة الحق الثابت و بالتالي صبغ مخالفيها بعكسه ، مع ذلك سنجتهد لبناء هذه الرؤية معتمدين على بعض مخرجات مدرسة " الأصول " في بعض تجلياتها .

 

في قواعد الفهم :

لعل الإمام أبا حامد الغزالي يساعدنا حين يضع ضابطا مهما للتعامل مع الشرع و نصوصه خصوصا في مجاله العام و الذي سيسميه الشاطبي " العادات " يقول أبو حامد الغزالي موصيا الفقيه المجتهد بأن :     " يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال و الأقوال ، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم و لا يكون عالما و لذلك يقال فلان من أوعية العلم فلا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم و الأسرار " (5)

 

و سيكون هذا الاهتمام بالأسرار و عدم الاكتفاء بالحرف و الظواهر دافعا للبحث عن العلل و المقاصد ، يقول عضد الدين الإيجي : " و التعليل هو الغالب على أحكام الشرع ، و ذلك لأن تعقل المعنى و معرفة أنه مفض إلى مصلحة أقرب إلى الانقياد من التعبد المحض ، فيكون أفضى إلى غرض الحكيم " (6)  و يؤكد المقاصدي التونسي العلامة محمد الطاهر بن عاشور نفس المعنى : " و استقراء أدلة كثيرة من القرأن و السنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم و علل راجعة للصلاح العام للمجتمع و الأفراد " (7)

إن ربط النصوص بالحكم و ربط الأحكام بالعلل يعطي منظومة تفسيرية من شأنها أن تبعدنا عن النظرة الظاهرية التي لا تلفت إلى المعاني و تلتزم بالأشكال حتى و لو لم تعد محققة للقصد و قد أكد عالم المقاصد الأشهر أبو إسحاق الشاطبي أن " الأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد ، دون الالتفات إلى المعاني ، و أصل العادات الالتفات إلى المعاني " (8)

 

و قد وفق الدكتور حسن الترابي في أطروحته التجديدية في صياغة الأمر على نحو دقيق عندما قال : " و من أعسر قضايا فقه الدين إدراك ما هو مقصود بغايته و صورته أيضا – بالنية و الشكل معا – من مظاهر التدين التي جاء بها النموذج الشرعي عهد نزول القرآن و حياة الرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما جاءت فيه الصورة عرضا غير مشروطة بذاتها على التأبيد بل لكونها وسيلة التعبير المتاحة في تلك البيئة الأولى عن مقصود الشرع " (9)      

 

و قد استطاع بعض الباحثين من خلال استقراء جيد لأطروحات أبي إسحاق الشاطبي أن يحدد قواعد أو ضوابط للفهم تشكل مجتمعة ما يمكن اعتباره نظرية أصولية في فهم نصوص الشرع ، فقد شرح الدكتور عبد المجيد اسماعيل السوسوه ذلك في بحثه القيم " الأسس العامة لفهم النص الشرعي: دراسة أصولية " اعتمد فيه طبعا على صاحب الموافقات و اعتبر هذه الأسس ثلاثة (10) الأساس الأول : الضبط اللغوي للنص و وضعه في موضعه ، الأساس الثاني : التكامل الدلالي بين النص و غيره مما له أثر على دلالته ، الأساس الثالث : الإهتداء بالمقاصد في فهم النص .

و اعتبر الدكتور عبد المجيد النجار الضابط الظرفي المستحضر لأسباب النزول أو الورود مستقلا بذاته مكملا للأسس الأخرى (11) و لا يعتبر ما سبقت الإشارة إليه من التفات إلى المعاني و المقاصد و ربط للأحكام بعللها أمرا جديدا بل شهدت حياة النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام ما يمثل أساسا لكل هذه المعاني : ففي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عندما رخص صلى الله عليه و سلم للشيخ و لم يفعل للشاب في التقبيل أثناء الصيام و استغرب الحاضرون قال صلى الله عليه و سلم : " إن الشيخ يملك نفسه " (12) و في ادخار الأضحية من عدمه علله صلى الله عليه و سلم بعد المنع ثم الإذن : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت " أو " فإن ذلك العام كان بالناس جهد – أي شدة و أزمة – فأردت أن تعينوا فيها " (13) و حديث القبور مشهور " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها " و أوضح الإمام القرطبي أن هذا الأمر ليس من باب النسخ بل من باب ارتفاع العلة " بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته ، لا لأنه منسوخ ...... فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضاحي و لم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم " (14) و معروف هو تغير فتاوى الصحابة في جملة من القضايا : في الأنواع التي تخرج منها زكاة الفطر ، و في زكاة الخيل ،    و في سهم المؤلفة قلوبهم ، و في قسمة الأرض المفتوحة ، و في عام المجاعة ، و في جمع القرآن ،    و في توبة القاتل ، و في التقاط الضالة (15) .

و قد سادت في تاريخ المسلمين مدارس تحفظت و لم تتوسع في هذا الاتجاه بل مالت إلى الاحتياط و منع  التأويل ، و قابلتها مدارس الرأي و التعليل حتى شكا أبو سليمان الخطابي من انقسام الناس في عصره : " إلى فرقتين : أصحاب حديث و أثر ولى أكثرهم ظهره للفقه و الفهم ، و أصحاب فقه و نظر لا يعرج أكثرهم من الحديث إلا على أقله " (16)

و تعتبر قضية المصالح و اعتبارها من أهم الأمور التي ساعدت في بناء التصور المشار إليه في مفتتح الحديث ، افتتح الإمام الشاطبي كتاب المقاصد من الموافقات قائلا : "  و لنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضوع ، و هي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل و الآجل معا " (17) و حين ذكر أقسام المقاصد ربط الضرورية بهذا المعنى " فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين و الدنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد و تهارج " (18)

ثم أوضح أن مقاصد الشرع في اعتبار المصالح مبثوثة مضطردة في التشريع شاملة له " مقاصد الشرع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة ، لا تختص بباب دون باب ، و لا بمحل دون محل ، و لا بمحل وفاق دون محل خلاف ، و بالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة و جزئياتها " (19) و قد أكد تلميذ الشاطبي ابن عاشور نفس المعنى مع لفتة مفيدة جديدة " فالشرائع كلها – و بخاصة شريعة الاسلام – جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل و الآجل ، أي في حاضر الأمور و عواقبها " ثم يوضح " و ليس المراد بالآجل أمور الآخرة ، لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة ، و لكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا " (20)

و لكن العلامة العز بن عبد السلام أوضح الأمر أكثر و أعطاه مقاربة شاملة ستفيد أكثر في زوايا النظر للمصالح ببعديها الديني و الدنيوي : " أما مصالح الآخرة و أسبابها و مفاسدها و أسبابها ، فلا تعرف إلا بالشرع ، فإن خفي منها شيئ طلب من أدلة الشرع ، و هي الكتاب و السنة و الإجماع و القياس المعتبر و الاستدلال الصحيح ، و أما مصالح الدنيا و أسبابها و مفاسدها و أسبابها فمعروفة بالضرورات و التجارب و العادات و الظنون المعتبرات ، فإن خفي شيئ من ذلك طلب من أدلته " ( 21) و قد اعتبر الصحابة رضوان الله عليهم و هم الأفقه و الأفهم المصالح هذه ، فالمصلحة هي التي جعلت أبابكر رضي الله عنه يجمع الصحف المفرقة التي كان يدون فيها القرآن ، و المصلحة هي التي دفعت عمر رضي الله عنه لوضع الخراج و تدوين الدواوين ، و هي التي جعلت عليا رضي الله عنه يضمن الصناع و يأمر أبا الأسود الدؤلي بوضع مبادئ النحو و هي التي استند إليها معاذ بن جبل رضي الله عنه في أخذ الثياب اليمنية بدل العين من زكاة الحبوب (22)

و يأتي الاجتهاد باعتباره الآلية الشرعية لتنزيل المعاني السابقة في إطار يجيب على الأسئلة و يعالج ما استجد من أقضية و أحوال ، يوضح الإمام الشاطبي معنى العموم و الكلية الذي يشكل أرضية الاجتهاد " و يكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ، و إنما أتت بأمور كلية و عبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر " (23) و قد كان حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم المروي في الصحيحين " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، و إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر "  تشجيعا صريحا و تشريعا لا يقبل التشكيك يقول الدكتور أحمد الريسوني معلقا على هذا الحديث : " لقد كان من الممكن ذهنيا و قياسيا أن يكون للمجتهد المصيب أجر ، و أن يكون على المجتهد المخطئ وزر ،

و كان من الممكن أيضا أن يكون المجتهد المخطئ معفوا عنه بلا أجر و لا وزر ، و في هذا عدل و فضل ، أما أن يكون المجتهد المخطئ غانما مأجورا فهذه هي الحكمة البالغة و الرحمة السابغة " (24)  و في كتابه القيم " تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع " أوضح العلامة عبد الله بن بيه أبعاد هذه المسألة و تنزيلاتها المختلفة ، و يتأسس الاجتهاد على حقيقة شرعية بينة أوضحها الحديث الشريف " ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا "(25)  و مع ذلك فالاجتهاد ليس بابا مفتوحا دون ضوابط  و لا موجهات ، صحيح أنه أحيانا و في بعض مراحل تاريخ المسلمين عسرت شروطه و ساد الاحتياط الزائد ، و لكن الاجتهاد مع ذلك يتطلب علما و معرفة و أدوات و لذلك حذر د. أحمد الريسوني " فهل يعقل و يقبل أن يكون الدين وحده – بأصوله و فروعه و قواعده – مجالا مباحا يقول فيه من شاء ما شاء بدعوى حرية الفكر و عدم احتكار الحقيقة " (26)

و تستمر الإضاءات المكملة للمعاني السابقة في التبلور داخل المنظومة الفقهية و الأصولية عند المسلمين ، فهذا الفقيه الحنفي المشهور ابن عابدين يعطي للزمان اعتباره و للعرف قيده " فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان ، لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الخكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة و الضرر بالناس و لخالف قواعد الشريعة " (27)

و قد صاغ الإمام ابن القيم قاعدة مشهورة بالغة الدلالة في هذا السياق " فصل : في تغير الفتوى و اختلافها بحسب تغير الأزمنة و الأمكنة و الأحوال و النيات و العوائد " (28) و مآلات الأمور و النظر في المصائر و استحضار ذلك عنصر مهم يلزم حضوره عند الفهم و أثناء الصياغة و عند التنزيل لأن الأمور بمآلاتها ، لنستمع للإمام الشاطبي " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا ، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ،

و ذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل " (29) و لشيخ الاسلام ابن تيمية موقف مشهور عكس هذا المعنى عندما أنكر على أصحابه إنكارهم على التتار شرب الخمر مبررا ذلك بأنها تشغلهم عن قتل الأنفس و ليس عن ذكر الله ، و قد اعتبر ابن القيم أن فقه المسافة بين الفهم و التنزيل فقه دقيق فهو " موضع مزلة أقدام ، و مضلة أفهام ، و هو مقام ضنك ، و معترك صعب " (30) و الناظر لبعض الأحكام و دلالات التخفيف الذي يكون بالاسقاط و التنقيص و الإبدال و التقديم و التأخير و الترخيص و التغيير أو  التيسيرو مسالكه ( تغليب الإباحة على التحريم ، إقرار الرخص في محالها ، تقديم الترغيب و التبشير ) سيزداد وضوح الأمر عنده و لذلك اشتهر عن بعضهم " نحن قوم لا نعرف التساهل في الدين ، و لكن نعرف التيسير فيه ، و لا نعرف التشديد في الدين ، و لكن نعرف الاستمساك به " (31)

يتواصل

نقلا عن موقع السراج