وقولوا للناس حسنا

ثلاثاء, 29/12/2015 - 15:28

أ. د. علي القره داغي

 

أنزل الله القران الكريم ليكون شفاء لما في الصدور والنفوس والعقول، ولو اتبع المؤمنون هذا القرآن الكريم، وبيانه العظيم المتمثل بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لفازوا في الدنيا فوزاً عظيماً، وفازوا كذلك في الآخرة فوزاً كبيراً، فهو شفاء ورحمة للمؤمنين، ومن أعظم المبادئ القرآنية التي تنظم العلاقات بين الإنسان والإنسان- مهما كان هذا الإنسان - هو هذا الشعار الذي جعله الله شعاراً لجميع الأنبياء، ثم أكده القرآن الكريم ليكون شعاراً خاصاً لهذه الأمة الخاتمة.

هذا الشعار هو ( وقولوا للناس حسناً )، فواجبنا ووظيفتنا أن نقول للناس حسناً، وأن نتكلم مع الناس جميعاً بالحسنى، وكلمة "الناس" في القرآن الكريم يراد بها معنيان، المعنى الأول: هو غير المسلمين. المعنى الثاني: الجميع، وهو الصحيح، أي قولوا لجميع البشر الحسنى مهما كانت دياناتهم ومهما كانت أعراقهم وأوطانهم وجنسياتهم، فالواجب على المسلم أن يتعامل مع الآخر وأن يتحدث بالقول الحسن، هذا الشعار جاء الأمر به قبل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يدل على أهمية التزام الإنسان بمقتضيات لسانه ( وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فكما أن إقامة الصلاة فريضة أساسية، وأن إيتاء الزكاة فريضة أساسية، وأن كليهما ركنان من أركان الإسلام، فإن قول الحسن هو أيضاً ركن ركين من ركائز هذا الدين.

 ثم أكد الله هذا الشعار لعباده الخلّص من المؤمنين والمسلمين ولصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يتبعهم إلى يوم الدين، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلّغ هذه الرسالة إلى هؤلاء الذين ينتسبون إلى هذا الدين بأن شعارهم الأساسي هو ( وَقُل لِّعِبَادِي ) الخلّص لله تعالى ( يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )، وهذا الشعار الذي خصه الله به المؤمنين أقوى وأشد وأعظم من الشعار السابق، فالشعار السابق هو قول الحسن أما هذا الشعار فهو للعباد الخالصين لله سبحانه وتعالى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يكتفوا بالقول الحسن وإنما يجب عليهم التفكير في كل مجالات الحياة، وفي كل حالة يريد التحدث فيها، أن يقولوا الأحسن وكلمة الأحسن هي اسم تفعيل أو أفضل التفضيل، أي: أحسن ما لديك، ولذلك مراتب الأقوال في الحسن ثلاثة أشياء، أولاً: القول العادي، الثاني: القول الحسن، الثالث: هو القول الأحسن في جميع جوانبه، ولم يقل رب العالمين ( يقولوا التي هي الأحسن ) بأل التعريف، حينئذ يكون فيه قالب معين، ولكن هنا قال رب العالمين ( أحسن ) نكرة وجاءت بالجملة الاسمية ( هي أحسن ) وهذا يدل على أنه يجب أن يختار المسلم إذا أراد أن يكون من عباد الله سبحانه وتعالى الذين ينجون ويفوزون في الآخرة، وينالون شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء يجب عليهم حينما يريدون أن يتحدثوا يختارون من حيث اللفظ أيَّ لفظ أجمل، ومن حيث الأسلوب أيَّ أسلوب يكون الأفضل، وأن يختاروا المقام المناسب والمكان المناسب.

إذاً المؤمن لا يقول إلا قليلاً، لأنه يحتاج إلى تفكير في الاختيار الأحسن، فلو وجدت كلمتان أو أسلوبان أو مقامان فلا يجوز له أن يتكلم إلا بعد أن يعرف أي الكلمتين أفضل وأي الجملتين أنسب وأي المقامين أفضل.

هنا يأتي دور التفكير، وهنا تأتي عظمة الإسلام في تعويد المسلم على التفكير، فلا يجوز أن ينطق إلا بما هو أحسن ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يصمت ) وكلمة خيراً أيضاً اسم تفضيل أي: أخير الأشياء، وحذفت منه الهمزة لكثرة استعمالها، وإلا الأصل كانت "أخير"، ولكن من أجل التخفيف حذفت الهمزة، أي أفضل الأشياء أو السكوت، وقد يكون السكوت من الذهب. ولِما نكثر من حساباتنا بسبب ما نتحدث به ترهات وأقاويل نحن في غنى عنه، وما أحوجنا إلى التخفيف ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ).

بيّن الله الحكمة من أن المسلم يُفكر ألف تفكير حتى يتكلم كلمة أمام مسلم وأمام غير مسلم لأن الله أمرنا ( وقولوا للناس حسناً ) ( يقولوا التي هي أحسن ) والقول الحسن يحتاج هذا التفكير العظيم الذي بيّن الله، وعلّل الله ذلك بــــــــ ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) فالشيطان يحاول حينما تتكلم بكلمة فيها احتمال للاستهانة أو الإهانة فإن الشيطان من الإنس والجن يعمل في القلب لإحداث البغضاء بينهم. ( إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً ) فكيف تطيعون هذا الشيطان؟

مصدر معظم الشرور - إن لم يكن كل الشرور- هو اللسان، هو عدم الانتباه، وعلينا بهذا المبدأ العظيم أن نقول الأحسن وإلا نصمت لأن الإنسان كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ليتكلم بكلمة ـــــــــ ولكن هذه الكلمة تجرح شعور الآخرين بما فيها من الإهانة ـــــــ ليبعد المتكلم من الجنة سبعين خريفاً.

اللسان مسؤولية، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما نصح معاذا أخذ بيده المباركة لسانه المبارك وقال: عليك بهذا فهذا مصدر كل الشرور، وقال معاذ هل نؤاخذ بما نقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( وهل يكب الناس على وجوههم إلاحصائد ألسنتهم؟) فاللسان مسؤولية كبيرة، ولو استطعنا نحن أن نمسك ألستنا ونلتزم بهذا الشعار لعباد الله الخالصين، لنجونا في الدنيا والآخرة، وما وقع في الأمة الإسلامية كله يعود إلى الكلام من التبديع والتفسيق والتكفير و اتهامات بدون وجه حق ، أو حتى بحق، وليس كل حق يقال وإنما الحق إنما يقال إذا كان نافعاً وإلا يصمت الإنسان فهو أفضل.

ما أحوجنا نحن إلى أن نكون من عباد الله، بهذا الوصف العظيم، ويكفينا شرفاً أن نكون من عباد الله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما خُيِّر لما أُسري بأي كلمة يوصف؟ قال يا ربي وصف العبودية ( سبحان الذي أسرى بعبده )، فوصف العبودية يتحقق بأن نقول للناس حسناً، وأن لا نتحدث إلا بعد التفكير، فالكلام يحتاج إلى تفكير، وإن الكلام في الفؤاد ثم يأتي في ممره ثم الأسنان يتدخل واللسان والشفتان، وكل هؤلاء مكابح، لأجل أن يكون الإنسان حريصاً على قول الحسن، وقول الحق، وأن لا يقول ما فيه الباطل والسوء سواء كان لنفسه أو لوالديه أو لأقاربه أو لأي شخص من الناس من الحكام والعلماء وعامتهم فكلهم يدخلوا في ( وقولوا للناس حسناً ).

ومما ينبغي ذكره مما يدخل في القول الحسن، حينما يفرح الناس بأمور حقق الله سبحانه لهم الأهداف، فلا مانع أيضاً أن نفرح بهذا الفرح، ولكن الله أمرنا أيضاً بأن نفرح لكل نعمة -من هذا الباب - أكرمنا الله بنا ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) ثم قال ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا )، لذلك كلما وجد فضل الله ورحمته نفرح، ولا مانع من هذا الفرح، فحينما ينتصر المسلمون على أعدائهم وحينما يستقل المسلمون،  نعمة من الله، فنحن نشكر الله على ذلك، ونجعل منه ذكرى. وكثير من الناس وسّعوا دائرة البدعة، وبدّعوا الناس، وهذا غير صحيح، فالبدعة في الشعائر وفي أمور الدين، وهذا حماية للدين، لا يجوز لنا أن نزيد في ديننا، وفي عباداتنا أو ننقص منها، ولكن أمور الدنيا قائمة على أن الأصل في الأشياء الإباحة .

ومن هنا أكرمنا الله بنعمة الأمن والأمان في هذا البلد، وبالاستقلال في هذا البلد، فحق لنا نفرح بذلك، ونشكر الله على ذلك، وندعوا الله أن يزيد من النعم على هذا البلد وعلى سائر بلاد المسلمين، ومن هذا الباب تأتي ذكرانا، ومن هذا الباب تأتي كذلك احتفالاتنا، أما الأعياد الدينية فلا أحد يستطيع أن يزيدها، فلنا عيدان فقط: عيد الأضحى وعيد الفطر، أما هذا فهو ذكرى طيبة وطنية، وذكرى إنسانية، وذكرى استقلال، والشريعة الإسلامية تعطينا هذا المجال، هذه وسائل، والله أباح لنا في الوسائل أن نزيد منها ولكن نثبت في قضية العبادات حتى تبقى قضية العبادات محفوظة.

الإسلام يتكون من الثوابت التي لا يجوز الإخلال بها، ولكن هناك مجالات كبيرة للاجتهادات والتطوير، حتى تكون للأمة ثوابت تحميها ومتغيرات تطورها، فأمتنا ليست جامدة بل متطورة، ولو رجع حكام المسلمين إلى دينهم لوجدوه يرفعهم إلى أعلى المستويات في أمور الدنيا والآخرة.

لذلك ندعوا الله أن يتمم وأن يكمل الخير ونعمة الأمن والأمان والازدهار على هذا البلد العظيم وسائر بلاد المسلمين ونتضرع إلى الله أن يعيد الأمن والأمان والحق إلى سوريا والعراق ومصر وليبيا وكل بلاد العالم الإسلامي.